يبدو أن هناك من يريد إعادة الجدل من جديد بشأن زيارة القدس بتأشيرة إسرائيلية إلى واجهة الجدل، ولذلك وكما هي عادته في التصدي للقضايا الكبرى بروحية الأمة ومصلحتها ورفعة دينها، كان العلامة الشيخ يوسف القرضاوي حاسما في الرد على تلك الأصوات النشاز، إذ أكد أن زيارة القدس والمسجد الأقصى من خلال "تأشيرة إسرائيلية عار وحرام شرعاً"، الأمر الذي جلب عليه هجوماً من طرف الرئيس الفلسطيني في حديثه لعدد من الصحف المصرية، حيث اتهمه الأخير بأنه لا يفهم في الدين، وأنه هو الذي عينه في قطر، مضيفاً القول "الله لا يوفقه".
اللافت بالطبع أن أهم الأصوات التي تصدت للموقف الآخر هي تلك القادمة من أوساط رسمية، أهمها السلطة الفلسطينية (وزير الأوقاف وبعض الأصوات الأخرى)، إلى جانب مسؤولين مصريين، تحديداً وزير الأوقاف الذي أعلن صراحة أنه مهتم بالحصول على تأشيرة إسرائيلية لزيارة القدس، معتبراً ذلك "أكبر دعم للقضية الفلسطينية والفلسطينيين".
لو توقف الأمر عن حدود تلك المواقف الرسمية لهان الأمر، مع أن إصرارها على تكرار موقفها بين الحين والآخر يجعل من الضروري تكرار الرد عليها حتى لا تشوش على جماهير الأمة وبعض علمائها، لكن الموقف أخذ يتجاوز البعد الرسمي إلى أصوات أخرى أخذت تتجرأ على طرح الموضوع في أطر داخلية، وبعضها يهمس أنه بصدد إعادة النظر في الفتوى السائدة، من دون أن نشكك بنوايا الجميع.
حين يقول البعض إن بالإمكان القياس على زيارة النبي عليه الصلاة والسلام لمكة والكعبة وهي تحت ولاية المشركين، فذلك قياس بائس ومحدود النظر من دون شك، لأن أهل مكة لم يكونوا مغتصبين للأرض أو قادمين من الخارج لاغتصابها كما هو حال الصهاينة، بل هم أهلها، وإنما كان الصراع معهم صراعاً محلياً على الدين والمبادئ. أما صراعنا مع الصهاينة فهو على الاحتلال وليس لأننا نريد إدخالهم في الإسلام.
إنها مشكلة تتعلق بالاحتلال وبالشرعية في ظروف زمان ومكان مختلفة إلى حد كبير، من حيث الدولة القومية ومن حيث الحدود والشرعيات الدولية، ولا مجال للقياس على الوضع القديم.
ثم إن القضية في عمومها تتعلق بالمفاسد والمصالح، أي هل إن مفاسد الزيارة أكثر من مصالحها أم العكس، وهنا يبدو أهل الفكر والسياسة أكثر أهلية لتقدير الموقف من بعض المشايخ الأقل انخراطاً في دهاليز السياسة وتناقضاتها وموازين القوى وتفاصيل الصراع.
ليس هذا تقليلاً من شأنهم، فهو بدورهم على ثغرة قد تكون أكثر أهمية، ولكن الأصل فيهم أن يستشيروا أهل الرأي في حالات من هذا النوع، وليس في ذلك ما يضير، والحكم عن الشيء فرع عن تصوره كما هي القاعدة المعروفة، والعلامة القرضاوي حيت أفتى بذلك كان قد استشار أهل الدراية من دون شك، إذ أنه حفظه الله ورغم موسوعيته لا يرى بأساً في ذلك.
فك الحصار على دولة العدو وتطبيع العلاقة معها ليس فيه مصلحة للمسلمين، ولا للقدس، لا سيما في هذه المرحلة التي تتصاعد فيها منظومة الاستهداف للقدس والمسجد الأقصى، ولو كان في الأمر مصلحة للمسلمين لما تردد الصهاينة في منع الزيارة، مع العلم أن ذلك لا ينطبق البتة على أهل فلسطين في الداخل.
هناك أضرار أخرى تترتب على الزيارة من الناحية الأمنية والاختراقات التي سيحدثها الصهاينة في جسم الأمة من خلال الإسقاط والعملاء، وما يترتب على ذلك من أضرار جسيمة.
تبقى الفوائد التي يمكن أن تتحقق والتي لم يقل لنا المساندون للرأي الآخر ما هي، وهل سيوقف الزائرون مسيرة التهويد أم سيثبتون حق اليهود في القدس من خلال التعامل مع وجودهم كأمر عادي يجري التعاطي معه بسلبية. أما الفوائد الاقتصادية فهي في معظمها للصهاينة، لأن الزائر سيمكث في القدس ساعات بينما، يقضي ما تبقى من الوقت في المدن المحتلة الأخرى يخدم اقتصاد الاحتلال، علما أنه حتى مكوثه في القدس يصب في خدمة اقتصاد الاحتلال بدرجة أكبر من فوائده للمقدسيين أنفسهم.
المشروع الصهيوني يترنح، وعزلته تتصاعد على سائر المستويات، فلماذا يريد هؤلاء أن يعيدونا إلى الوراء بفك العزلة عنه، في ذات الوقت الذي يخدمون فيه مشروع سلطة تجمل الاحتلال وتعمل لمصلحته، وليس مشروع التحرير؟ لماذا؟، لماذا يريدون من الأمة أن تشد الرحال إلى سفارات العدو للحصول على التأشيرات، والتأشيرة عقد بين من يعطيها ومن يأخذها، وذلك بدل الحشد من أجل تحريره؟ لماذا؟.