جاء الاعتداء الإسرائيلي على أسطول الحرية ليقطع سلسلة مقالاتي حول القدس التي أعتقد أنها قضية كل مسلم، وأن تحريرها هو هدف الحياة، ومن أجلها يجب أن يضحي المسلم بالنفس والمال والولد والوقت والجهد، وأن يشحذ بصيرته وإرادته... ومن أجلها يجب أن يتعلم ويعلم ويبدع ويخترع ويكتب ويخطب ويحب ويكره ويغضب ويصرخ ويصمت.
ومن أجل القدس تحمل أهل غزة آلام الجوع والحرمان، وصمدوا في وجه الحصار والعدوان... لكن لم يكن من الممكن أن أصمت في مواجهة الجريمة الإسرائيلية ضد الحرية والإنسانية والحضارة والأخلاق... لذا اعتذر للقدس حبي الأول والأخير، وأواصل الكتابة حول كيف نحرر القدس؟!.
قهر الخوف
إذا قرأنا التاريخ بعمق سنكتشف أن الذين حرروا القدس من الاحتلال الروماني ثم من الاحتلال الصليبي قد قهروا الخوف من كل القوى المادية، وقرروا أن يملأوا أنفسهم بالخوف من الله وحده، ومن يخاف الله لا يخشى سواه.
والذين يخافون من القوى المادية يشغلون أنفسهم بحسابات موازين القوى، فيفقدون شجاعة القلب وقوة الضمير.
وحسابات الواقع دائماً تتناقض مع تطور التاريخ فالذين يخافون من موازين القوى لا يتقدمون للتغيير، والتاريخ يذكر لنا الكثير من النماذج التي غيرت الواقع بالرغم من افتقادهم لعناصر القدرة المادية.
دراسة التاريخ تبرهن لنا أن موازين القوى كانت مختلة لصالح الأعداء منذ غزوة بدر حتى العدوان الإسرائيلي على غزة... ومع ذلك انتصر المسلمون الذين ملأوا قلوبهم بقوة الإيمان بالله على الذين يمتلكون عناصر القوة المادية.
وأتحدى أي مؤرخ يثبت أن المسلمين كانوا أكثر عدداً أو عدة في أية معركة دخلوها طوال التاريخ.
وهذا يوضح أن نتائج الصراعات لا تعتمد فقط على موازين القوى والحسابات المادية والأسلحة المتقدمة وعدد الجيوش، وأن اعتماد أمريكا و"إسرائيل" على تلك الحسابات هو مؤشر على الضعف وبداية الانهيار.
والذي يعتمد على الحسابات المادية يصاب بالرعب إذا حدث أي تغيير في الواقع أو دخلت عوامل أخرى أثرت على تلك الحسابات.
أما الذي يعتمد على قوة الله ولا يخاف إلا منه فإنه يتعامل مع الواقع دون خوف، ويتفاعل مع كل العوامل ويستثمرها لصالحه، ويستخدم قوته الحضارية والثقافية، ويبذل كل جهده، ويدرك أن النصر من عند الله وبيده وحده، والله هو القادر على أن ينصر عباده المؤمنين وتلك حقيقة تجلت عبر التاريخ، وحيرت علماء الغرب الذين لم يستطيعوا أن يتصوروا أن الأقوى مادياً ينهزم أمام الأقوى إيماناً وحضارة وشجاعة إنسانية.
كيف نحسب القوة؟
الماديون يحسبون القوة اعتماداً على مقاييس مادية فقط، والمادة عامل واحد، وقد لا تكون أهم العوامل في إدارة الصراع.
وقد يتعرض الأقوى مادياً للهزيمة... وهذا ما حدث للرومان والصليبيين والسوفيت والأمريكيين... لذلك فإن علم إدارة الصراع يجب أن يتطور ليدرس بعمق الصراعات التاريخية الكبرى، وليوضح دور العوامل المختلفة، خاصة العوامل الدينية والحضارية والثقافية والإنسانية.
والصراعات التاريخية يجب أن لا يديرها العسكريون لأن رؤيتهم دائماً محدودة وتركز على السلاح وليس على الإنسان.
والجيوش الحديثة اعتمدت على التقاليد العسكرية الغربية التي اهتمت بانضباط الجندي، وتعليمه كيفية استخدام السلاح والمحافظة عليه. أي أن السلاح أصبح أهم من الإنسان. ولذلك فإن الجندي يخاف على سلاحه أكثر من اهتمامه بإجادة استخدامه. لأنه سيتعرض للمحاكمة إذا فقد السلاح... لذلك فهو خائف على سلاحه ويخاف من استخدامه، ويخاف من خوفه، وهو لا يستطيع أن يبدع في استخدام السلاح.
وكثيراً ما عطلت قوة السلاح قوة العقل والتفكير والقدرة على المبادرة... لذلك قد تكون قوة السلاح على حساب قوة الإنسان.
والجندي الخائف الذي يمتلك سلاحاً متقدماً لا يهتم بالحضارة أو الأخلاق أو قيم العدل أو صفات الفروسية.
يمكنك أن تجد الكثير من الأدلة على صحة تلك النتيجة إذا تأملت سلوك الجنود الإسرائيليين والأمريكيين.
فالجندي الإسرائيلي كان يتصرف خلال عدوانه على غزة كأنه آلة تدير آلة، وهو يستخدم سلاحه القوي ليدمر ويقتل، وليلقي آلاف الأطنان من المواد الحارقة ذات القدرة التدميرية العالمية، ولا يهتم بتأثير ذلك على الحضارة والإنسانية، هكذا تحول هذا الجندي إلى مجرم، وفقد صفات المحارب الشجاع.
والجندي الإسرائيلي المجرم دمر آلاف المنازل في غزة على رؤوس أصحابها باستخدام القوة التدميرية لأسلحته المتقدمة. لكنه فقد عقله وروحه وإنسانيته فهو مجرد مجرم أحمق يقتل ويخرب... لكنه لم ولن ينتصر.. وهو يستحق العار وليس المجد.
ولقد عجز الجندي الإسرائيلي عن دخول غزة لأنه كان خائفاً من المقاتلين المؤمنين الذين يمتلكون الشجاعة الإنسانية والحضارية... لكنهم لا يمتلكون سوى القليل من السلاح الذي قاموا بتصنيعه بأنفسهم، وأبدعوا في تحسينه واستخدامه... لذلك لم يكونوا خائفين على سلاحهم ويستطيعوا استخدامه بكفاءة لأنهم صنعوه، ولأنهم يعرفون أنهم يستطيعون أن يصنعوا أفضل منه، ولأن المؤمن يتقدم ليضحي بنفسه، وبالتأكيد فإن سلاحه لا يمكن أن يكون أغلى من حياته. لذلك ازداد السلاح كفاءة في أيديهم التي أحسنت تصويبه، فخاف الجندي الإسرائيلي من المواجهة، واكتفى بأن يطلق من بعيد نيران صواريخه المتقدمة. وربما تكون تلك أهم النتائج التي كشفها العدوان الإسرائيلي والتي سيكون لها أكبر الأثر في بناء المستقبل وإدارة الصراع.
اقهر خوفك!
لذلك فإن الذي يريد أن يشارك في تحرير القدس لابد أن ينتصر أولاً على نفسه بأن يقهر خوفه، ولا يخاف إلا من رب العباد الذي خلقه. وأن يتعلم كيف يحسن استثمار قوته الإيمانية والحضارية والثقافية والإنسانية.
قوة الضمير وشجاعة القلب أهم من قوة السلاح... وإدارة الصراع تعتمد على الإرادة الإنسانية التي تحدد الأهداف وتصر على تحقيقها وتلك الإرادة الإنسانية يمكن أن تطور السلاح وتبدع في استخدامه، بينما يتعطل تفكير الذين يمتلكون أقوى الأسلحة، ويتحولون إلى مجرمين.
إدارة الصراع علم يعتمد على استخدام كل العوامل لتحقيق النصر... ومن المؤكد أن الإيمان بالله الذي يملأ قلوب الرجال شجاعة هو أهم العوامل، فالذي يؤمن بالله ولا يخاف سواه هو الذي يستطيع أن يفكر ويغير موازين القوى، فيعيد تشكيلها، ويدير الصراع باستخدام عوامل الحضارة والثقافة وهي عوامل لا يستطيع أن يستخدمها الأعداء الذين يفكرون بمنطق المادة وحساباتها.
والذي يخاف من الله لا يخاف من سلاح الأعداء مهما بلغ تطوره وتقدمه، وهو يتقدم بإيمانه فيتراجع العدو خوفاً.... وهذا ما حدث منذ غزوة بدر حتى العدوان الإسرائيلي على غزة.
إن أردت أخي أن تحرر القدس، فاقهر خوفك ولا تخف إلا من الله... واستخدم كل طاقتك الإيمانية وقوتك الإنسانية وفكر وتعلم وتقدم... فإن النصر قادم مهما بلغت القوة المادية للأعداء.